اهتم الإسلام كثيراً بعفة اللسان وطهره وإبعاده عن قبيح القول وسيئ الألفاظ. قال تعالي:{وقولوا للناس حسنا}(البقرة:83)، وأحاط اللسان بملكين كريمين يكتبان كل ما ينطق به الإنسان:{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:18).
وليس بعد هذا اهتمام بالنطق والكلام، وليس المؤمن بصخاب ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء كما في الحديث، لهذا كان غريباً على الحس الإسلامي والذوق الإنساني أن نسمع أن البعض يستبيح النطق بألفاظ فاحشة قبيحة تجري على لسانه حتى يتعودها فيسمي لغيره بعض أعضاء التناسل للرجل والمرأة مثلاً بأسمائها الصريحة بل ويسمي العملية الجنسية كما يسميها بعض هؤلاء صراحة وإن اختلفت هذه التسمية من بلد إلى آخر.
تشكل البيئة في مجملها ذلك الجو المحيط الذي يترعرع فيه الطفل وينشأ: البيت، الأسرة، الجيران، الحي، الأقارب، المدرسة، الشارع، المجتمع، الوطن......
ويكبر محيط تلك البيئة مع الإنسان في نموه وتطوره من الطفولة إلى المراهقة، ومنها إلى الشباب والكهولة. يتأثر فيما يتأثر به بعفة الألفاظ ونظافة اللسان(فمن يستخدمون السلالم والمصاعد للطلوع والنزول، ويعلو صوتهم وسبابهم إلى داخل الغرف المغلقة، ومن يتعاركون في الشارع أو يصرخون في سياراتهم يأذون المسامع ويخدشون الحياء، دون إحساس ودون إدراك بأن ما يفعلونه تلوث بيئي لفظي في منتهي القسوة). ناهيك عما يدور من حوارات يكون فيها الشتم نوعاً من الاستمتاع دون اعتبار لصفته النابية، يمتزج بالضحك والمزاح على المقاهي وفي الـ Coffee Shops، وكذلك في النوادي، على نواصي الشوارع، وأمام محلات التيك أواي.
يدخل في إطار كل هذا الصخب، على نحو مقنن غزو داخلي من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة يتأجج ذلك بانتشار الفضائيات وغزوها لخصوصياتنا، فنجد مسوخاً تؤذي البصر بأشكالها، تُشخص ما لا تدري أو تهزأ بلسان العصفور كما لا تعرفه، وجوه تعكرت بالماكياج الثقيل، وحوارات في برامج عشوائية ومسلسلات هزيلة أحياناً، تضعف النفس وتكسر صفاءها، كما نسمع أغنيات ثقيلة الدم، فجة المعني، تائهة لاهثة، فنري من تتلوي وتتأوه وتتعرى على الأرض وفي الفراش وأحياناً في الفضاء.
من خلال كل ذلك قد نري الولد الصغير وهو يحب رؤية خاله(على سبيل المثال لا الحصر) وتقليده، أو محاكاة أبيه بالتلفظ بالأسوأ ليثبت أنه رجل، فنجده يشب متعلماً اللغة حديثاً وطوله لم يتعد الشبرين، طويل اللسان، بذيء يؤذي من حوله، وهم بدورهم يؤنبونه ويعنفونه غير مدركين أنهم قد شكلوا نواة وعيه وخلقوا له بيئة ملوثة اللفظ والحركة والمعني لينشأ كما يروه وأنه ابنهم وليس لغيرهم، وقد أصبح ملحاحاً عنيداً ومخجلاً.
لنا هنا أن نتوقف وأن نربي أنفسنا قدر إمكاننا أن نضبط انفعالنا ما استطعنا ذلك سبيلاً، علينا كآباء ومربيين ومعلمين أن نستبدل ذلك العنف اللفظي وتلك الوساخة اللغوية بتلك القدرة البسيطة على التواصل وتوصيل المعني والمشاعر في تلقائية وعفوية تضفي على المكان والزمان والإنسان جواً صحياً رائعاً، لابد وأن تسوده روح الدعابة والمرح. جو يبتعد ما أمكنه ذلك عن النكد والنواح، عن الطلبات المتتالية المتزايدة وغير الواقعية أحياناً، أن يبتعد عن اللوم والتأنيب والتقريظ والقسوة النفسية التي كثيراً ما تفوق في أثرها الضرب المبرح.
إن كثيراً من المعاودين للعيادة النفسية في كبرهم يتذكرون في ألم مصادرة الأب لضحكاتهم تحت دعوى أنها (قلة أدب)، ومصادرة الأم لأوقات لهوهم (بدعوى ضرورة المذاكرة طول الوقت)، ومصادرة حرية الخطأ واعتبارهم مذنبين للأبد، مما يٌولد شعوراً دفيناً بالقتامة وعدم القدرة على إتيان الفرحة والبهجة.
إن البيئة النفسية الصحيحة تتطلب الطمأنة والاطمئنان، الاهتمام الكافي، البعد عن تهميش الزوجة، أو تشيييء الطفل، بل الدخول إلى عالمه والتفاعل معه، على الأسرة هنا أن تتوحد وتتمازج وأن تهمل سلوكاً شائكاً، أن تسامح وتعزز سلوكاً حميداً، ترشد، تهدي وتهتدي، تندمج مع الناس في حدود خصوصيتها، فكثير من الاضطرابات التي تصيب الصغار والكبار على حدٍ سواء تتكون من جراء العزل والرفض والنبذ والخوف من الآخر أياً كان، لنا أن نشرك أولادنا في حواراتنا وعيننا عليهم لنا أن نتأمل إرهاقهم على الانترنت وعبث فوضى رسائل الموبايل، توحش الألعاب الالكترونية (الفيديو جيم).
لنا أن نزرع الوعي في أعماقهم دون وصاية أو دعاية أو إرهاب، نفتح مسامهم وننسحب بإيجابياتنا إلى تحت جلدهم ليروا حقائق الحياة الجنسية السياسية والأخلاقية دون خوف. لنا أن ندرك أن فلذات أكبادنا تلك التي تمشي على الأرض تتعلم من عراك الحياة، ومن الحركة والنشاط والتواجد. ليس لنا أن نفرض عليهم أحزاننا وظروفنا وضغوطنا، لا مانع من مشاركتهم في أحوالنا وتعريفهم بظروفنا، لكن يجب ألا ننزلق إلى خلق بيئة مفزعة مليئة بالصراخ والبكاء والانطواء والانغلاق، فلا نحملهم همومنا وتعبنا وخوفنا، لنا أيضاً ألا نفسد أولادنا بالتدليل الزائد أو الإفراط في الهدايا والطعام والشراب، وألا يغمرنا البذخ دونما سبب، ألا نتطاول أمام أطفالنا بالضرب والسباب، لا نتحدى بعضنا البعض، لا نرشيهم بلعبة ولا نرتشي منهم بوعد استذكار ونجاح من أجل تمرير خطأ.
كما يجب ألا نستخدم أحد أفراد الأسرة جاسوساً على الآخر، لأن في ذلك خلق لبيئة فاسدة مفسدة تعكر الجو وترهق النفس تتلوث البيئة النفسية بالخصام والهجر، خاصة بين الآباء والأبناء، وبين الأزواج والزوجات أيضاً يتلوث الوجدان باغتيال براءة الطفل والتنكيل به وإهماله عاطفياً وجسدياً. توفر البيئة الصحية للفرد تنمية ذكاءه وتطور شخصيته، فتبعده عن شبح التوتر والإكتئاب والرهاب الاجتماعي، وتزرع فيه الثقة والأمل، الشجاعة والهدوء.
إن رؤية البحر ومشاهدة النيل، التريض في الهواء الطلق، الابتعاد عن الزحام والتكدس، تفادي المثيرات العامة والخاصة، كالضوضاء والإضاءة العشوائية، الاستمتاع وعدم القدرة على تنظيم الوقت، كلها عوامل تؤدي إلى استعادة الحيوية والحياة والقدرة على الاستمتاع، على النضارة والإشراق وحب الحياة والإبداع ما أمكن ذلك.....
رغم كل قساوة الواقع المحيط بنا يمكننا أن نجعل الأكل هنياً والجو غنياً، والظرف مواتياً، فيكون ملمس الوسادة أكثر راحة، فنتمكن قدر الإمكان من الاسترخاء الجسدي بإراحة العضلات في وضع متمدد ولو عشر دقائق، بالاسترخاء الذهني بتخيل العقل (رغم أنف كل شئ) كسطح بحيرة ساكن لا يؤثر فيه حتى النسيم، وبإلقاء كل النفايات الحياتية في صندوق القمامة لتحمله عربات الحياة بعيداً عنا.
أن نكون كالصياد الماهر ننظف شباكنا من الطحالب كل ليلة، لا ننام ونحن نحمل الهم حتى لو وجد (نخليها على الله دون اتكال مطلق)، أن نعبر الحواجز والموانع التي تمنعنا من الانطلاق وتحسسنا بالترهل والعجز، أن نستعيد القدرة على الاستمتاع بأشياء بسيطة وجميلة(نصف أغنية قديمة، نسيم ساعة العصاري، كوب شاي بالنعناع من يد حلوة، نخلة باسقة، لون مزدهر)، نبحث ونفتش عن بعض أو كل تلك الأشياء فيما حولنا، حتى لو أرهقنا البحث، لأننا حتماً سنجدها، لأنها موجودة، لا ندع الملل أو الكسل يصيبنا. نبتسم للضيق دون زيف، نضحك ملء قلوبنا إذا ما أتنحيت لنا الفرصة وألا نخاف من الفرحة فهي منظفة للبيئة ومحققة للسلام الداخلي والطمأنينة والسكينة والاستقرار.